بقلم - د. زغلول النجار (2) التأكيد على دوران الأرض حول محورها أمام الشمس :
فلو لم تكن الأرض كروية، ولو لم تكن تلك الكرة تدور حول محورها أمام
الشمس ما تبادل الليل والنهار، وهذا الدوران عبَّرت عنه الآيات القرآنية
في أكثر من عشرين آية صريحة بتعبيرات ضمنية رقيقة، ولكنها مصاغة صياغة
علمية دقيقة، تبلغ من الدقة والشمول والكمال ما لم يبلغه العلم الحديث
منها :
إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل، واختلافهما،
وتعاقبهما، وتقليبهما، وإدبار أحدهما وإقبال الآخر، وإغشاء النهار
بالليل، وتجلية الليل بالنهار، وتكوير الليل على النهار، وتكوير النهار
على الليل، وجعل كلٍ منهما خلفة للآخر، وسريان الليل وعسعسته، بعد
إظلامه وسَجْوِه، وإسفار الصبح وتنفسه وطلوع ضحاه وتجليه بعد إغشاء الليل
وإظلامه(آل عمران:27، الرعد:3، الحج:61،المؤمنون:80، النور:44،
الفرقان:62، لقمان:29، الجاثية:3ـ5، الحديد:6، المدثر:33ـ35،
التكوير:17 ـ19، الفجر:4، الليل:2،1، الضحى:2،1) .
وقد أنزلت هذه الآيات مؤكدة حقيقة دوران الأرض حول محورها في وقت ساد فيه
الاعتقاد بثبات الأرض ورسوخها ـ بمعنى عدم دورانها أو تحركها ـ وهو أمر
معجز للغاية .
(3) التأكيد على أن سرعة دوران الأرض حول محورها أمام الشمس في المراحل الأولى لخلق الكون كانت أعلى من سرعتها الحالية :
وهذه الحقيقة لم يتوصل العلم المكتسب من إدراكها إلا في العقود المتأخرة
من القرن العشرين، وقد سبقها القرآن الكريم بأكثر من أربعة عشر قرناً ،
وذلك بالإشارة إلى هذه الحقيقة في قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : "
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ
اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ " (الأعراف:54) .
وإغشاء النهار بالليل جاء في القرآن الكريم أربع مرات ( الأعراف:54،
الرعد:3، الشمس:1ـ4، الليل:2،1), والمرة الوحيدة التي جاءت فيها
الصفة " يَطْلُبُهُ حَثِيثاً " ـ أي سريعاًً ـ هي هذه الآية الرابعة
والخمسين من سورة الأعراف؛ لأنها تتحدث عن بداية خلق السماوات والأرض،
وهي حقيقة مدونة في هياكل الحيوانات وأخشاب النباتات بدقة بالغة، ولم
يكن لأحد من الخلق إلمام بأية فكرة عنها إلا في العقود المتأخرة من القرن
العشرين، حين اكتشف العلماء أن تبادل الليل والنهار كان يتم في العقود
الجيولوجية القديمة بسرعة فائقة جعلت من عدد الأيام في السنة عند بدء
الخلق أكثر من ألفي يوم، وجعلت من طول الليل والنهار معاً أقل من أربع
ساعات . وكان إبطاء سرعة دوران الأرض حول محورها بمعدل جزء من الثانية
في كل قرن من الزمان آية من آيات الله في إعداد الأرض لاستقبال الحياة؛
لأن صور الحياة ـ وفي مقدمتها الإنسان ـ ما كان ممكناً أن تتلاءم مع هذه
السرعات الفائقة لدوران الأرض، ولا لقصر طول كل من الليل والنهار .
(4) التأكيد على سبح الأرض في مدارها حول الشمس :
يعبِّر القرآن الكريم عن الأرض في عدد من آياته بالليل والنهار كما جاء في
قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ " (
الأنبياء:33)
{لاالشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ ولااللَّيْلُ سَابِقُ
النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40 وذلك لأن كلاً من الليل
والنهار عبارة عن ظرف زمان، وليس جسماً مادياًً, ولابد للزمان من مكان
يظهر فيه, والمكان في هذه الحالة هو كوكب الأرض الذي يقتسم الليل
نصفه، والنهار النصف الآخر في حركة دائبة، وتبادل مستمر، ولو لم تكن
الأرض كروية، ولو لم تكن تدور حول محورها أمام الشمس، لما تبادل سطحها
الليل والنهار في تعاقب مستمر،, ولولا جري الأرض في مدارها حول الشمس، ما
تغيرت البروج، ولو لم تكن الأرض مائلة بمحور دورانها على دائرة البروج
بزاوية مقدارها 66.5 درجة تقريباً، ما تبادلت الفصول، ولولا علم الله
بجهل الناس لتلك الحقائق في الأزمنة السابقة لأنزل الحقيقة الكونية بلغة
صادعة، قاطعة، ولكن لكي لا يفزع الخلق في وقت تنزل القرآن الكريم، أشار
إلى جري الأرض في مدارها المحدد لها حول الشمس يسبح كل من الليل
والنهار، والسبح لا يكون إلا للأجسام المادية في وسط أقل كثافة منها،
فالسبح في اللغة هو الانتقال السريع للجسم المادي بحركة ذاتية فيه ، مثل
حركات كلٍ من الأرض والقمر والشمس وغيرها من أجرام السماء، كلٌ في مداره
وحول جرم أكبر منه، ويؤكد هذا الاستنتاج صيغة الجمع " كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ " التي جاءت في الآيتين (الأنبياء:33 ، يس:40)؛ لأنه لو كان
المقصود بالسبح الشمس والقمر فحسب لجاء التعبير بالتثنية، وكلاهما
يَسْبَحَان .
(5) التأكيد على الرقة الشديدة لطبقة النهار في الغلاف الغازي لنصف الأرض المواجه للشمس :
وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا بعد ريادة الفضاء في منتصف الخمسينيات
وأوائل الستينيات من القرن العشرين، وقد سبق القرآن الكريم هذا الكشف
العلمي بأربعة عشر قرناً، وذلك في قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : "
وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم
مُّظْلِمُونَ " ( يس:37) .
وهذه الآية الكريمة تؤكد أن الأصل في الكون الظلام، وأن طبقة النهار في
الغلاف الغازي المحيط بنصف الأرض المواجه للشمس، والتي تتحرك باستمرار
لتحل محل ظلام الليل بإشراق الفجر، هي طبقة بالغة الرقة، لا يكاد سمكها
أن يتعدى المائتي كيلو متر فوق مستوى سطح البحر، وإذا نسبنا هذا السمك
إلى المسافة بين الأرض والشمس ـ وهي مقدرة بحوالي المائة وخمسين مليون
كيلو متر ـ كانت النسبة واحداً إلى سبعمائة وخمسين ألفاً تقريباً
(200كم/150.000.000كم=750.000/1 تقريبا) ، وإذا نسبناه إلى نصف
قطر الجزء المدرك من الكون، والمقدر بأكثر من اثني عشر بليون ( ألف
مليون) سنة ضوئية، اختفت هذه النسبة تماماً أو كادت .
ومن هنا تتضح ضآلة سمك الطبقة التي يعمها نور النهار، كما يتضح عدم
استقرارها لانتقالها باستمرار من نقطة إلى أخرى على سطح الأرض مع دورانها
حول محورها أمام الشمس، ويتضح كذلك أن تلك الطبقة الرقيقة من نور النهار
تحجب عنا ظلام الكون الخارجي؛ لأن الذين تعدوا طبقة النهار من رواد
الفضاء رأوا الشمس في منتصف النهار قرصاً أزرق في صفحة سوداء، وبهذه
المعلومات التي اكتشفت منذ أقل من نصف قرن تتضح روعة تشبيه القرآن الكريم
(انسلاخ نور النهار عن ظلمة كلٍ من الليل والكون كسلخ جلد الذبيحة الرقيق
عن كامل بدنها)، وهذا يؤكد أن الظلمة هي الأصل في هذا الكون، وأن
النهار ليس إلا ظاهرة نورانية عارضة رقيقة جداً، لا تظهر إلا في
الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي في نصفه المواجه للشمس، وبواسطة دوران
الأرض حول محورها أمام ذلك النجم ينسلخ النهار تدريجياً أمام ظلمة ليل
الأرض، والتي تلتقي بظلمة السماء .
وتجلِّي النهار على الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض بهذا النور
الأبيض المبهج هو من نعم الله الكبرى على عباده، ويفسرها تشتت ضوء الشمس
بانعكاساته المتكررة على هباءات الغبار وعلى جزيئات كلٍ من بخار الماء
والهواء العالقة بالغلاف الغازي القريب من الأرض ،(والتي تثيرها الرياح
من سطح الأرض)، وبعد تجاوز المائتي كيلو متر فوق سطح البحر يبدأ الهواء
في التخلخل لتضاؤل تركيزه، وتناقص كثافته باستمرار مع الارتفاع، وندرة
كلٍ من جسيمات الغبار وبخار الماء فيه حتى تتلاشى، ولذلك تبدو شمسنا كما
يبدو غيرها من نجوم السماء الدنيا، بقعاً زرقاء باهتة، في بحر غامر من
ظلمة الكون .
(6) التأكيد على دقة الحساب الزمني بواسطة كلٍ من الليل والنهار والشمس والقمر:
من المعروف أن السنة الهجرية هي سنة شمسية/قمرية؛ لأن هذه السنة تحددها
دورة الأرض حول الشمس دورة كاملة، تتمها في365.25 يوماً تقريباًً، وأن
هذه السنة تُقسَّم إلى اثني عشر شهراً بواسطة دوران القمر حول الأرض، كما
يقسم الشهر إلى أسابيع وأيام وليالٍ بنفس الواسطة، وقد تقسم الشهور
بواسطة البروج التي تمر بها الأرض في أثناء جريها في مدارها حول الشمس،
كما تدرك الأيام بتبادل كلٍ من الليل والنهار، ويُقسَّم النهار إلى
وحدات أصغر بواسطة المزولة الشمسية، ومن هنا كان القسم القرآني بالليل
والنهار والشمس والقمر في خمس آيات ( الأنعام:96، إبراهيم:33،
النحل:12، الأنبياء:33، فصلت:37) .
(7) الإشارة إلى أن ليل الأرض كان في بدء الخلق يُنار بعدد من الظواهر الكونية :
وفي ذلك يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : " وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ
النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ
وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ
فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً " (الإسراء:12) .
ويُستَشَفُّ من هذه الآية أن ظاهرة الشفق القطبي وأطيافه ( Aurora and
Aural Spectra)، والتي تعرف أيضاً باسم ظاهرة الأنوار القطبية(Polar
lights)، أو باسم ظاهرة فجر الليل القطبي(Polar Night Dawn)،وهي ظاهرة
نورانية تُرى بالليل في سماء المناطق القطبية وحول القطبية، وتتكون
نتيجة لارتطام الأشعة الكونية الأولية التي تملأ فسحة الجزء المدرك من
الكون ( على هيئة الجسيمات الأولية للمادة) بالغلاف الغازي للأرض مما
يؤدي إلى تأينه، وإصدار آشعة كونية ثانوية، ونتيجة لذلك تتصادم الأشعات
بشحناتها الكهربية المختلفة مع كلٍ من أحزمة الإشعاع ونطق التأين في
الغلاف الغازي للأرض وتفريغ شحناتها فتوهجها . والجسيمات الأولية للمادة
متناهية في الدقة،, وتحمل شحنات كهربية عالية، وتتحرك بسرعات تقترب من
سرعة الضوء، ولم تكتشف إلا في سنة1936 م .
والأشعة الكونية تتحرك بمحاذاة خطوط المجال المغناطيسي للأرض، والتي تنحني
لتصب في قطبي الأرض المغناطيسين فتؤدي إلى تأين الغلاف الغازي للأرض،
ومن ثم إلى توهجه . ومن الثابت علمياً أن نطق الحماية المتعددة في
الغلاف الغازي للأرض، مثل نطاق الأوزون، ونطق التأين، وأحزمة الإشعاع،
والنطاق المغناطيسي للأرض لم تكن موجودة في بدء خلق الأرض، ولذلك فقد
كانت الأشعة الكونية تصل إلى المستويات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض
فتؤدي إلى توهجه ليلاً حول كافة الأرض، وبعد تكون نطق الحماية المختلفة
أخذت هذه الظاهرة في التضاؤل التدريجي حتى اختفت فيما عدا مناطق محدودة
حول القطبين، تبقى شاهدة على أن ليل الأرض في المراحل الأولى من خلقها
كان يضاء بوهج لا يقل في شدته عن نور الفجر الصادق . فسبحان الذي أنزل من
قبل أربعة عشر قرناً قوله الحق على لسان نبيه الخاتم : " وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ
وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن
رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ "
(الإسراء:12) .
هذه الشواهد العلمية المستقاة من تبادل الليل والنهار بدءاً بتأكيد كروية
الأرض، ثم دورانها حول محورها، وتباطؤ هذا الدوران مع الزمن، وجريها في
مدارها المحدد حول الشمس، والرقة الشديدة لطبقة النهار, والدقة
الفائقة لحساب الزمن بواسطة تتابع كلٍ من الليل والنهار والشمس والقمر،
وأن ليل الأرض كان يضاء في بدء الخلق بوهج لا يقل في شدته عن نور الفجر
الصادق، وأن من بقايا هذا الوهج القديم ظاهرة الفجر القطبي .
هذه الشواهد لم يصل الإنسان إلى إدراكها إلا في العقود المتأخرة من القرن
العشرين، وورودها في كتاب الله الذي أُنزل على نبي أمي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين, ومن قبل أربعة عشر
قرناً لما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخاتم والخالد، وأن
النبي والرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولاً بالوحي، ومعلَّماً من قبل
خالق السماوات والأرض، ولذلك وصفه ربه ـ سبحانه وتعالى ـ بقوله : "
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ،
عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى " (النجم:3-5) .