د. خالد الحروب
كتب الصديق هاني المصري مؤخرا مقالا مهما, كسائر مقالاته, بعنون “لن تكون
هناك قدس شرقية بعد عشرة أشهر�?, وقد اقتبس عنوان مقاله من تصريحات
لمسؤولين إسرائيليين ومن المفيد معاودة الاقتباس لأهم ما فيه تقديما لما
سيلي. نقل المصري في مقاله ما قاله مسؤولون من الحلقة الضيقة لرئيس
الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو من أن أهداف هذا الأخير من وراء
الاستراتيجية الإسرائيلية الحالية التي تقوم على الاستيطان المحموم هي
القضاء على ما تبقى من القدس الشرقية. أحد أهم تلك التصريحات منسوبة
لمسؤول كبير قال إن نتانياهون أكد في جلستين مغلقتين واحدة مع وزراء
حكومته والثانية مع كبار قادة المستوطنين في 25 ديسمبر 2009 بأن القرار
الذي اتخذه من أجل الوقف الجزئي والمؤقت للاستيطان في الضفة لمدة عشرة
اشهر سيؤدي في نهاية الأمر إلى ضم القدس الشرقية لإسرائيل لتصبح قلبا
وقالبا العاصمة الأبدية الموحدة للشعب اليهودي. وأضاف نتانياهو “هدفي أن
تصبح أحياء القدس الشرقية أحياء مختلطة بين الفلسطينين والإسرائيليين, كما
هو الوضع في حيفا ويافا, حيث يصعب على السلطة الفلسطينية الحالية أو من
سيأتي بعدها المطالبة بشرقي القدس لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية
المستقبلية. ووفقا للمسؤول سابق الذكر فإن نتانياهو ابلغ قادة المستوطنين
بأنه يمكنهم العيش أينما أرادوا في شرقي القدس, في الشيخ جراح او في حي
سلوان أو في القدس القديمة وشعفاط ووادي الجوز وجبل أبو غنيم, حيث سيتم
تفتيت شرقي القدس, وأنه بعد عشرة أشهر لن يبقى شيء اسمه القدس الشرقية�?.
سياسة نتانياهو التنفيذية هذه هي تطبيق لتوصيات متتالية من قبل
استراتيجيين ومؤتمرات وصناع رأي صهاينة خلال السنوات الماضية, كلها كانت
تدور حول محور واحد: تغيير الميزان الديموغرافي والجغرافي للقدس الشرقية
وتحويل الفلسطينيين إلى أقلية لا تتجاوز ال 15 في المائة. الوقاحة
والعجرفة الإسرائيلية في تطبيق تلك السياسة مدهشة, إذ يتم التنفيذ تحت ضوء
الشمس, ورغم اعتراض كل دول العالم, وحتى باستثارة وإغضاب الولايات المتحدة
الداعم الأكبر والأهم لإسرائيل. لم تعد الأمور تستوجب “مؤامرات خفية�?, بل
هي سياسات علنية عنصرية ومتوحشة وتطبق على مرآى الجميع: إنه تحول وقح في
السياسة حيث يُضاف العهر التعجرفي إلى التوحش والعنصرية.
يحدث هذا عشية انعقاد القمة العربية في أواخر هذا الشهر في ليبيا. ومطلوب
من هذه القمة أن تكون قمة القدس وأن يفكر القادة العرب بكيفية مواجهة
الإجراءات الإسرائيلية الإبادية للفلسطينيين في المدينة التاريخية التي
يتغنى بها العرب والمسلمون من ورائهم. ماذا يمكن أن يُقترح على جدول أعمال
القمة العتيدة في ما خص القدس؟
أولاً: اتخاذ آليات للضغط على الولايات المتحدة من أجل اتخاذ مواقف أكثر
تصلبا ضد إدارة نتانياهو, والضغط عليه. ما يحدث الآن هو أنه رغم الخلافات
العلنية بين أمريكا وإسرائيل فإن ما يتم التوافق عليه ضمنيا هو الإزاحة
التدريجية للموقف الأمريكي والغربي باتجاه الموقف الإسرائيلي, ويحدث ذلك
منذ أن طالبت إدارة أوباما الإسرائيليين بتجميد الاستيطان تدريجيا تراجع
الموقف الأمريكي إلى ما صرنا نعرفه, وصولا إلى اللطمة المخزية التي تلقتها
الإدارة الأمريكية بإعلان إسرائيل بناء 1600 وحدة سكنية في القدس الشرقية
خلال زيارة جو بايدن نائب الرئيس لإسرائيل. تحتاج إدارة أوباما إلى ضغط من
العرب والمسلمين يكافىء الضغط الذي تواجهه من اللوبيات اليهودية في واشنطن
ومن إسرائيل. وجهة النظر التي تقول بأن ليس من الحكمة الضغط على أوباما في
الوقت الذي يواجه فيه ضغوطا من إسرائيل (حتى لا نخسره!) ضعيفة وهشة. هو
نفسه ومن حوله بحاجة إلى هذا الضغط كي يستخدموه وليقولوا بأننا نخسر في
الجانب العربي إن استمرت سياستنا متواطئة مع إسرائيل في كل اتجاه وقرار
تذهب إليه.
ثانياً: واستتباعا لما سبق, بإمكان العرب مقايضة المواقف والطلبات مع
الولايات المتحدة. فهذه الأخيرة تريد منهم, إن لم نقل تجبرهم, على ممارسة
نوع من الضغوط على الصين لاتخاذ مواقف قريبة من الموقف الأمريكي تجاه
الملف النووي الإيراني. من حق العرب ومما يقع في إطار الإمكانية السياسية
والقدرة استخدام اوراق ضغط ضد الولايات المتحدة نفسها في موضوع القدس
والمجادلة بأن هذا الموضوع بالغ الحساسية للعرب والمسلمين.
ثالثاً: على القمة العربية أن تبحث في آليات وإجراءات عملية لدعم صمود
المقدسيين. يحتاج أهل القدس إلى دعم مالي واقتصادي يثبت من بقي منهم.
ونعلم جميعا مستويات الفقر والبطالة والأمية والازدحام السكاني, والضغوطات
الاقتصادية المتراكمة التي ولدتها السياسات الإسرائيلية وأدت إلى بروز كم
هائل من الأمراض الاجتماعية بما فيها انتشار المخدرات والسرقة وغيرها في
التجمعات الفلسطينية, وذلك بهدف تفتيتها وتهجير من بقي من المقدسيين.
تغيير الوضع القائم يحتاج إلى دعم فعال ومالي وليس إلى شعارات تأييد وحسب.
من العيب أن يضمحل عدد المقدسيين بسبب الفقر والبطالة وتتزايد معدلات
هجرتهم في الوقت الذي بإمكان جزء يسير من الرساميل العربية التي نعرف
جميعا أين تصول وتجول وتهدر أن يغير كل المعادلة.
رابعا: على القمة العربية, وتفصيلا في مجال الدعم الاقتصادي للمقدسيين, أن
تفكر في آليات استثمار في القدس وتسمح وتشجع رأس المال العربي والمستثمرين
العرب بأن يستثمروا فيها. المتجول في القدس غربيها, وشرقيها أيضا, يرى
يهودا من كل جنسيات الارض, ويرى استثمارات وأبنية وإسكانات يبنيها رأس
المال اليهودي من الولايات المتحدة, إلى أوروبا, إلى روسيا واستراليا. في
المقابل يلوي العرب والمسلمون ذراعهم بأيديهم تحت مسمى التطبيع ويساهمون
عمليا في إفساح المجال أكثر وأكثر لتهويد القدس وضياعها. يجب الانتهاء من
سياسة قصر النظر التي تتلفح بالتطبيع لتبرر العجز والكسل وعدم الفاعلية.
كل مسألة يجب أن تأخذ بحسب معطياتها وبحسب عوائدها ومخاسرها. أما الوقوع
في أسر شعارات تأخذ مع الزمن شكل مقدسات ومحرمات كبرى فإن ذلك يخدم الخصوم
والأعداء في حالات كثيرة, على عكس ما أريد منها. ما تبقى من اراضي القدس
وسكانها يحتاجون إلى مستثمرين عرب ومسلمين, ووجودهم يؤكد البعد العربي
والإسلامي للمدينة ويبرزه, ولا يدعها فريسة للتهويد الذي نراه يوميا يزداد
نهما على الأرض, فيما نحن نزداد غضبا في بوتقة الشعار المنقطع عنها.