غازي السعدي
يبدو أن تكرار اللعبة الإسرائيلية، بفرض الأمر الواقع، قد فشل هذه المرة،
وارتد في وجه الحكومة الإسرائيلية، فقد اعتبرت دوائر سياسية إسرائيلية،
إضافة إلى المحللين، بأن الأزمة الحالية في العلاقات بين إسرائيل
والولايات المتحدة، الأكثر عمقاً وتوتراً وإحراجاً لإسرائيل، منذ الأزمة
التي وقعت بين البلدين عام 1975 وتحديداً في مارس حين وافقت إسرائيل على
الانسحاب من سيناء حتى خط العريش رأس محمد، لكنها طلبت من المصريين
الإعلان عن نهاية حالة الحرب بين الدولتين، وهو الأمر الذي رفضته مصر،
وطالبت بانسحاب إسرائيل إلى خطوط الرابع من حزيران 1967، لكن إسرائيل
رفضت، وقد حمل وزير الخارجية الأميركية آنذاك هنري كيسنجر إسرائيل مسؤولية
الفشل ووصفها بالمتعنتة، وفي أعقاب هذا الفشل، أعلن الرئيس الأميركي
"فورد"، عن إعادة تقدير العلاقات الأميركية-الإسرائيلية، والتي في أعقابها
جمد التوقيع على صفقات سلاح جديدة مع إسرائيل، وأمر بإجراء لقاءات غير
رسمية مع شخصيات من منظمة التحرير الفلسطينية، ووقف تنسيق المواقف مع
إسرائيل، توطئة لمؤتمر جنيف الدولي الذي لم يعقد في نهاية المطاف، إلا أن
"كيسنجر" الذي قام بجولة مكوكية أخرى في شهر سبتمبر من ذلك العام، نجح في
جسر الخلافات بين الجانبين والتوصل إلى صيغة اتفاق مع المصريين.
إن التوتر الحالي بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، لم يبدأ
بالإعلان الإسرائيلي عن إقامة (1600) وحدة سكنية في القدس الشرقية، أثناء
زيارة الضيف الكبير "جوزيف بايدن" نائب الرئيس الأميركي، بل هناك احتقان
وغضب أميركي كبير على إسرائيل، حين رفضت الاستجابة لطلب الرئيس الأميركي
"باراك أوباما"، بتجميد كافة أنواع البناء في الأراضي الفلسطينية، بما في
ذلك القدس الشرقية، وبدلاً من الاستجابة للدعوة الرئاسية الأميركية، التفت
إسرائيل بقرار صوري لتجميد البناء لمدة عشرة أشهر، دون شمل القدس في هذا
التجميد، حتى أن هذا القرار لم ينفذ بالكامل، مما أغضب الأمريكيين ودفعهم
لتجاهل طلبات رئيس الوزراء الإسرائيلي، المتكررة للاجتماع بالرئيس
الأميركي، فهذه فرصة حقيقية أمام إدارة الرئيس "أوباما"، لكي يقول
لإسرائيل: كفى اعتمادكم على القوة والبلطجة والعجرفة، وتجاهلكم للقانون
الدولي، بالقيام بما يحلو لكم، وتعريض المنطقة من خلال سياستكم للتوتر
والأزمات والحروب، بدلاً من تحقيق الأمن والسلام لجميع دول المنطقة، وهذا
لن يتم دون تحقيق الحد الأدنى من الحلم الفلسطيني، بإقامة الدولة
الفلسطينية المستقلة.
وزيرة الخارجية الأميركية "هيلاري كلينتون" التي تعتبر ضمن مراكز القوى
الأكثر تعاطفاً مع إسرائيل، داخل دائرة الصراعات في الإدارة الأميركية حول
كيفية التعامل مع إسرائيل، كانت غاضبة جداً في مكالمتها الهاتفية الشهيرة
مع "نتانياهو" والتي استغرقت (43) دقيقة، والتي أعربت فيها عن عدم
ارتياحها من المسلكية الإسرائيلية، فقد وبخت "نتانياهو" وحملته المسؤولية
للإعلان عن إقامة (1600) وحدة سكنية في وجه نائب الرئيس الأميركي وإهانته
وأبلغت "نتانياهو"، أن بناء وحدات سكنية جديدة في القدس الشرقية، يشكل
خطوة سلبية جداً بالنسبة للعلاقات الثنائية بين البلدين، وأدلت بتصريحات
متشددة ضد السياسة الإسرائيلية، وقامت بسلسلة مقابلات أجرتها مع وسائل
الإعلام الأميركية، معبرة عن استيائها، لكن القضية بنظرنا ليست من حيث
التوقيت بالإعلان عن بناء الوحدات السكنية الجديدة، بل بالمضمون وليس
بالشكل وإدانة التوقيت، لكنه لا يستهان بهذه المكالمة الهاتفية الطويلة،
والتي لا نعرف مضمونها الكامل، فإن ما تسرب منها هو مطالبة "هيلاري"
إسرائيل بـ :
• إلغاء قرار لجنة البناء التي أقرت بناء (1600) وحدة سكنية في القدس الشرقية "رمات شلومو".
• تجميد كامل للبناء في الأراضي الفلسطينية بما في ذلك القدس الشرقية.
• أن تعلن إسرائيل استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين لتشمل القضايا
الجوهرية بما في ذلك القدس وجميع القضايا الأخرى على عكس الموقف
الإسرائيلي.
• قيام إسرائيل بتقديم مبادرات حسن نية مثل إطلاق سراح أسرى فلسطينيين،
وانسحاب الجيش الإسرائيلي من عدد من المناطق، وإزالة حواجز وتخفيف الحصار
عن قطاع غزة إلى غير ذلك من المطالب.
وزارة الخارجية الأميركية استدعت السفير الإسرائيلي في واشنطن، لتسليمه
الاحتجاج الرسمي على استمرار عمليات البناء، لقد اعتبرت أن الأزمة مع
أميركا عميقة جداً، مما يتناقض مع التوقعات الإسرائيلية بأنها عابرة، بل
إنها الأسوأ في تاريخ العلاقات الأميركية-الإسرائيلية، وخاصة بعد الجهد
الذي بذلته الإدارة الأميركية لحمل الجانب الفلسطيني على القبول بمفاوضات
غير مباشرة، لمدة أربعة أشهر مع إسرائيل، فجاء القرار الاستيطاني الجديد،
وما تقوم به من إجراءات خاصة في القدس العربية، لينسف هذه الجهود، مما دفع
"بنتانياهو" لدعوة اللجنة الوزارية الأمنية المشكلة من سبعة وزراء، لعقد
اجتماع طارئ مساء السبت قبل الماضي، لتدارس أبعاد الأزمة مع الولايات
المتحدة، واستمر هذا الاجتماع حتى ساعات متأخرة من الليل، استمعوا خلاله
إلى تقارير وتقديرات قيل إنها لم تكن مشجعة، ووجهت انتقادات لاستخبارات
وزارة الخارجية وجهازها الدبلوماسي لعدم التنبؤ بما سيحدث مسبقاً.
الأزمة الإسرائيلية مع الولايات المتحدة في ذروتها، رغم إعلان "نتانياهو"
بشكل متعجرف بأن الأزمة أصبحت جزءاً من الماضي، لكن إسرائيل لا تعرف ما
الذي يجب عمله، مما يؤكد عن اهتزاز وفقدان الصواب لدى الحكومة
الإسرائيلية، وأن المطلوب منها أن تثبت بشكل واضح أنها تريد السلام
فعلياً، وكل ما فعله "نتانياهو"هو تشكيل لجنة لتقصي تسلسل الأحداث
المتعلقة بالإعلان عن البناء خلال زيارة نائب الرئيس الأميركي، فإنه يتحدث
عن خطأ في التوقيت، وليس في المضمون. اللجنة الرباعية المشكلة من الولايات
المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، أصدرت بياناً شجبت
فيه بشدة القرار الإسرائيلي، وفي إقامة وحدات سكنية جديدة في القدس
الشرقية، والذي ألحق أضراراً جسيمة بمسيرة السلام، مؤكدة أن هذه الإجراءات
لن تحظى باعتراف دولي، أما موقف الاتحاد الأوروبي، فقد كان أشد عنفاً
واستياء من القرار الاستيطاني الإسرائيلي.
الصحفي اليهودي-الأميركي المشهور طوماس فريدمان، شبه "نتانياهو" في مقال
له، بالمدمن على الكحول، يقود سيارته وهي تميل يميناً ويسارا، فيفقد
بوصلته والوجهة التي يريد أن يصل إليها، ووصف هذا الصحفي إسرائيل بأنها
تتصرف بعنجهية موضحاً أنه كان على "بايدن" حال سماعه قرار البناء الجديد،
بأن يحزم حقائبه فوراً ومغادرة إسرائيل، أما الصحف الإسرائيلية، فقد أجمعت
بأن الأزمة ستكون مفتوحة مع واشنطن، وأنها كانت متوقعة منذ زمن بين
إسرائيل والولايات المتحدة، منذ تولي "نتانياهو" رئاسة الحكومة، وأن على
نتانياهو أن يختار بين قناعته الأيديولوجية، وتحالفه مع اليمين الإسرائيلي
من جهة، وبين ضرورة الحفاظ على دعم واشنطن من جهة أخرى كما جاء في
افتتاحية جريدة "هآرتس 14/3/2010" كما أعربت الصحف الإسرائيلية الأخرى عن
قلقها من الأزمة مع الولايات المتحدة، مؤكدة أن الدعم الأميركي لإسرائيل
مهم جداً، خاصة وأن إسرائيل تعتمد على واشنطن لوقف برنامج إيران النووي،
واعتبرت جريدة "معاريف"، أن الأزمة الإسرائيلية مع الإدارة الأميركية هي
الأخطر، وأن رد "نتانياهو" على الانتقادات الأميركية يدل على هلعه، أما
جريدة "يديعوت احرونوت" فقد اعتبرت أن الإنذار الأميركي المتعلق بتجميد
الاستيطان، في أعقاب قيام إسرائيل بالبصق في وجه حليفتها الرئيسية، بينما
اعتبرت جريدة "إسرائيل اليوم" المقربة من نتانياهو، أن رد الفعل الأميركي
مبالغ فيه، بعد أن أعربت إسرائيل عن أسفها.
لقد تحركت اللوبيات الصهيونية في الولايات المتحدة، وخاصة منظمة "ايباك"،
للضغط على الإدارة الأميركية، لتخفيف حملتها على إسرائيل، وأن لا تكون
طلباتها من إسرائيل علنية، وقد أصدرت هذه اللوبيات بياناً شجبت فيه تصرفات
الإدارة الأميركية في قضية البناء في القدس، وأعربت عن قلقها من تردي
العلاقات الأميركية-الإسرائيلية، وهذا يدل على خطورة الأزمة، فهناك خشية
إسرائيلية بأن تدفع هذه الأزمة، إلى تغيير في السياسة الأميركية تجاه
إسرائيل، بعد أن أكدت الإدارة الأميركية بأنها لا تقبل بالوعود
الإسرائيلية، بل تريد أن ترى أفعالاً على الأرض، بعد أن شعرت الإدارة
الأميركية بالإهانة من قبل إسرائيل، وبالتالي فإن هذه الأزمة وفقاً
للمصادر الإسرائيلية، ألحقت أَضراراً جسيمة بإسرائيل، خشية من تدهور
العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، بينما هناك مواقف إسرائيلية
أخرى، تطالب بالوقوف بحزم أمام الإدارة الأميركية، وأن تقول لهذه الإدارة:
لقد تماديتم وأخرجتم الأمور عن سياقها الحقيقي، وأن على إسرائيل التمسك
باستمرار البناء، الذي لا يحتاج إلى إذن من الرئيس الأميركي، وأن القدس
خارج أية مفاوضات.
هناك من يعتقد بأن تغيير الائتلاف الوزاري الآخذ بالتصدع، قد يغير الصورة،
ونحن لا نعتقد ذلك، إذ أن جزءاً كبيراً من نواب حزب الليكود الحاكم، أكثر
تطرفاً من حزب إسرائيل بيتنا، والأحزاب الدينية واليمينية الأخرى، فإن وضع
نتانياهو محفوف بالمخاطر، الناجمة عن الانقسامات الإسرائيلية، غير أن
الحزب الديمقراطي الأميركي الحاكم برئاسة "أوباما" ليس في وضع أحسن لتصعيد
الأزمة مع إسرائيل، وإمكانية محاسبتها، واستعادة الولايات المتحدة دورها
كوسيط عادل في الشرق الأوسط، مع أن بعض الصحف الأميركية، تهيئ الرأي العام
لمثل هذا الاحتمال، غير أن الحسابات للانتخابات البرلمانية الأميركية في
العام المقبل، قد تؤدي إلى قيام الإدارة الأميركية بتهدئة الأزمة، وعودة
المياه مع إسرائيل إلى مجراها الطبيعي.
ورغم قيام مسؤولين إسرائيليين باتهام "نتانياهو" بالتقليل من حجم الأزمة
مع الولايات المتحدة، إلا أن جريدة "يديعوت احرونوت نشرت خبراً بتاريخ
14/3/2010 أكدت فيه بأنهم في البيت الأبيض يصفون نتانياهو "بالكذاب".
وأخيراً فإن المطلوب من الفلسطينيين والعرب، تشجيع الرئيس "أوباما" ودعمه
في مواصلة هذا التوجه الأميركي الجديد، والتصرف بحكمة وذكاء، أما
فلسطينياً فالمطلوب عدم العودة لطاولة المفاوضات دون وقف شامل للاستيطان،
أما المطلوب عربياً، فيجب إسماع صوتهم الذي يكاد أن يتلاشى، والقيام
باستغلال نفوذهم لدى الولايات المتحدة، للصمود في موقفها من الاستيطان،
أما نحن فنقول: نريد نتائج على الأرض، لإزالة الاحتلال، وإقامة الدولة
الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف، غير أن الأمور ما زالت غير واضحة، وهي
مفتوحة على جميع الاحتمالات، ونخشى تراجع الإدارة الأميركية عن مواقفها
الحالية من الاستيطان، والاستمرار بضغطها على الفلسطينيين بدلاً من الضغط
على إسرائيل، وتكون الغلبة لصالح إسرائيل، وعودة المياه
الأميركية-الإسرائيلية إلى مجاريها السابقة.