أحمد إبراهيم
أبو مصطفى المولود يوم الجمعة الماضي في ميناء القاهرة الجوي
(المطار) بتاريخ 19 فبراير 2010، هو نفسه المولود يوم الأربعاء في الجيزة
قبل ذلك بثمان وستين سنة وبتاريخ: 17 يونيو 1942، ابنه الوحيد (مصطفى)
يعمل مدير ستوديو في محطة تلفزة خاصة، و(ليلى) ابنته الوحيدة تعمل في
المحاماة، وزوجته (عايدة الكاشف) تعمل مدرّسة في "رياض أطفال فيينا
الدولية" .. هذه زوجته وتلك ابنته وذاك ابنه.! فمن هو؟
إنه الدكتور محمد مصطفى البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية
للطاقة الذرية الذي عاد الوطن بحقيبته المصرية فاستقبل في الأجواء المصرية
بغضب الخريف وربيعه، ثم اُستقبل على الأراضي المصرية بغضبين: (غضب
الغاضبين عليه، وغضب المغضوب عليهم)، فإلى الصراط المستقيم يا البرادعي لا
إلى المغضوب عليهم ولا إلى الضآلين.
والطائرة التي أقلت لنا البرادعي من فيينا نحو العرب بدت للكثير
وكأنها تحمل الجديد أو تحمل من سيأتي بجديد، رغم أن فضاءاتنا لم تخل يوما
من جديد ولو بثوب قديم، أليست استباحة إسرائيل لمقدسات الحرم الإبراهيمي
بجديد؟ وعزمها بناء 600 منزل آخر على أراض محتلة من القدس الشرقية هو جديد
الجديد؟ وإقحامها 200 ألف إسرائيلي في مناطق قريبة من الضفة الغربية
بالقدس الشرقية المحتلة منذ عام 1967 بأنها عاصمتها الأبدية وغير القابلة
للتقسيم هو قديم ذلك الجديد؟
ثم أليس اجتماع ليبرمان الإسرائيلي يوم الاثنين في بروكسل مع وزراء
خارجية دول أوروبية استخدمت جوازات سفر مزورة لمواطنيها، بانتهاك حرمة دبي
الآمنة العامرة المسالمة لاغتيال محمود المبحوح الشهر الماضي هو آخر حلقات
هذا الجديد؟
ثم أليس الجديد على ضفتي النيل من حيث مرت بهما طائرة البرادعي، أن
نسمع من طرف صوت السلام وشعارات "انتهت حرب دارفو وابتدأت معركة التعمير
"ثم ونقرأ على الضفاف الآخر اللافتات بامتداد شوارع الثلاثيني ومحمد علي
بعنوان "لا للبرادعي ولا نور .. مبارك أدخل في نفوسنا السرور" .. وسواعد
الشباب من الحزب الوطني وأصواتهم "لا البرادعي ولا نور .. ده جمال هو
المنصور".
ونترك كل جديد غير مصر ونعود لمصر قبلة العرب وأم الدنيا، فنعود
للبرادعي ليس لأنه سيأتي بجديد، وإنما لأنه هو الجديد، فالبرادعي المتخرج
من جامعة القاهرة سنة 1962 بدرجة ليسانس حقوق الذي قضى 12 عاما على رأس
الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، يعتبر اليوم ولو
بشكل افتراضي مصري بلا وظيفة في مصر البطالة والتوريث، والبرادعي زوجته
وابنته ما زالتا موظفتين وابنه موظفا وهو الآخر كان موظفا .. فهذه الشبكة
الوظيفة لتلك العائلة من ربها إلى ربيبها تشير بوضوح إلى نزاهة رب الأسرة
الذي رغم جلوسه على كرسي القرار النهائي لمنظمة دولية كانت تتحكم في مصير
وكالات الطاقات العالمية، وكان يحمل في جيبه الطمغة النهائية وفي يده
القفل النهائي لأي مفاعل نووي في العالم بشطبة قلم، ورغم ذلك يبدو عليه
كان يأكل ليعيش ولا يعيش ليأكل، كما كان قد روّض أسرته على لقمة العيش
التي تأتيها بنسيج من عرق الجبين.
إن كان هناك 80 مليون مصري يعتقد أن البرادعي سيجلس القصر الرئاسي
وسيأتي بالجديد، فليس أمامي إلا أن أحترم رأي الأغلبية بالتزام الصمت، ليس
لأن البرادعي كان في الأمم المتحدة وجاءنا من الخارج ليغير كل شيء بمجرد
جلوسه على كرسي الرئاسة فحسب، كما حلم الكثير قبل البرادعي من بطرس غالي
الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، وإنما لأن البرادعي أمامه الكثير من
المعوقات.
احتمالات أن يصبح البرادعي هو رئيس جمهورية مصر العربية ضعيفة جدا
وإن شئت قلها معدومة لأسباب دستورية وإن حصلت انتخابات نزيهة وشفافة، لأنه
سيصطدم بنفس الصخرة التي اصطدم بها غيره بعد تعديل المادة 76 من الدستور
ومن الاستفتاء داخل مجلس الشعب إلى الانتخاب المباشر، ومن اشتراط حصول
المرشح على تأييد من 250 سياسيا من ضمنهم 65 أعضاء مجلس النواب، و25 من
الغرفة العليا للبرلمان و10 أعضاء من المجالس البلدية .. وكل هذه المؤسسات
تخضع لسيطرة الحزب الحاكم وهذا ما قصدته من كلمة "الصخرة".
لكن هذا الإقبال الجماهيري نحو المطار للبرادعي والشباب له باللافتات
في الشوارع، والتفاف أكثر من 30 من ممثلي القوى السياسية حوله، وتنازل
الاثنين منهم لأجله، وانتخابه بالإجماع رئيسا "للجمعية الوطنية للتغيير"
التشكيل السياسي الجديد الذي تأسس بعد وصول البرادعي بهدف إدخال التعديلات
على الدستور المصري الحالي، كلها مؤشرات تحريك القطار نحو كعكة قضمتها
الأولى لن تكون من نصيب البرادعي ومن في جيله، لكن يبقى الشارع الذي أحب
البرادعي سيحبه أكثر وإن لم ينله وذلك بسنة الممنوع مرغوب وبمنهجية "خالف
تُعرف".
فليقبل البرادعي منصب وزير بلا وزارة أو رئيساً بلا رئاسة، وليحكم
البرادعي برلمان مصر افتراضيا وقلوب المصريين حقيقيا، وليتجول أنحاء مصر
على فرضية أنه هو فخامة الرئيس، ولنكن صادقين مع أنفسنا أنه لو جلس
البرادعي القصر الجمهوري مباشرة من كرسي وكالة الطاقة، بخبرات "ابن بطوطة"
بين المطارات العالمية يبحث عن المفاعلات النووية واليورانيوم المخصّب،
فهل يستطيع هذا الرحّال من اليوم الأول لجلوسه الفعلي على كرسي الرئاسة
فهم هموم المواطن المصري من أسيوط إلى أسوان ومن الأسكندرية إلى
الإسماعيلة؟
لا أعتقد ذلك .. فما عليه إلا أن يقبل هذا المنصب الافتراضي للرئاسة
الافتراضية في الفترة الحالية ويتجول في أنحاء مصر بين الحضر والريف،
وسيكتشف بنفسه أن عصاه السحرية من الشهرة وسلاحه الدولي من الإعلام
العالمي لا يعالجان هموم تلك الأكواخ والكهوف والمقابر، فلن يبقى في جعبته
غير الحسرة والآهات وما أكثرها تلك الآهات وتردداتها أفقيا وعموديا
بترنيمة: "آه .. إنها الشرعية لأجزاء مصر على حساب ذلك الثراء الفاحس
اللاشرعي من أجزائها الأخرى، كما وهذا الغلاء الفاحش على جُلّ الشعوب هي
الابنة الشرعية لذلك الثراء الفاحش لبعضهم".
*كاتب إماراتي