د. فيصل القاسم
حتى الأنبياء والرسل تعرضوا خلال حياتهم للإساءات والتجريح والهجاء،
لا بل للسباب والشتائم أحياناً. ويكفي أن نذكر أن الرسول الأعظم عليه
الصلاة والسلام لاقى الأمرّين على أيدي معارضيه الذين وصل بهم الحد إلى
وصفه بـ"الساحر" ونعوت بشعة أخرى. مع ذلك تقبل المرسلون النقد بصدر رحب،
ولم يلجأوا إلى محاكمة المسيئين إليهم ولا إلى تذويبهم بالأسيد، أو
إخفائهم خلف الشمس.
وقد سارت الحكومات الديمقراطية التي تحترم نفسها في الغرب على هدي
المتسامحين في التاريخ، فهي تقبل كل الانتقادات وحتى الهجاء الذي يوجه
إليها في وسائل الإعلام بكل أريحية، لا بل إن رؤساءها يتعرضون أحياناً
للإساءات الجسدية. فذات يوم رمى أحد الشبان رئيس الوزراء البريطاني السابق
توني بلير بكيس صغير من البودرة الملونة وهو يلقي خطاباً داخل البرلمان
البريطاني. وقد شاهد الحاضرون كيف تناثرت البودرة على وجه بلير وملابسه،
بحيث بدا لحظتها وكأنه مهرج. ولم يأمر بلير وقتها بتحويل الشاب إلى لحم
مفروم ولا إلى الزج بعائلته القريبة والبعيدة في غياهب السجون إلى أبد
الآبدين، ولا إلى حرمانه من حقوقه المدنية.
ولطالما شاهدنا المسؤولين الكبار في الغرب يتعرضون للرشق بالبيض
الفاسد والطماطم العفنة والأحذية، وحتى بمواد صلبة مؤذية جداً دون أن
يتعرض المهاجمون إلى أي عقاب باستثناء الاقتياد إلى مراكز الشرطة أو
الخضوع لمحاكمات مدنية لا تتجاوز العقوبة فيها أكثر من السجن لبضعة أيام
أو دفع غرامة مالية بسيطة. وقبل فترة وجيزة تعرض رئيس الحكومة الإيطالية
سيلفيو بيرلسكوني لهجوم بتمثال إسمنتي صغير من أحد الشبان، مما أدى إلى
كسر أسنانه وأنفه وتشويه وجهه. وكلنا شاهد على شاشات التلفزيون ذلك المنظر
الدموي لبيرلسكوني. وكل ما في الأمر أن والد المهاجم اعتذر عن فعلة ابنه
الذي تتم مقاضاته الآن بطريقة مدنية اعتيادية، ليس لأنه هاجم رأس الدولة
بل لأن القانون الإيطالي كان سيعاقبه بنفس الطريقة حتى لو كان المعتدى
عليه شخصاً عادياً.
وحتى جورج بوش الرئيس السابق لأقوى دولة في العالم تعرض على الهواء
مباشرة أمام ملايين المشاهدين في العالم للضرب بحذاء على يدي الصحفي
العراقي الشهير منتظر الزيدي. وما كان من بوش سوى أنه علق ضاحكاً بأن
الحذاء الذي استهدفه كان قياسه أربعة وأربعين. وحين سئل بوش عما إذا كان
يريد أن يوقع بالزيدي عقوبة من العيار الثقيل سخر من الصحفيين الذين وجهوا
له السؤال معتبراً أن فعلة رامي الحذاء فعل عادي لا يستحق صاحبها أية
عقوبة. ولولا أن قوات الأمن العراقية انهالت ضرباً على منتظر الزيدي لربما
مر الحادث بشكل عادي، ولما تكسرت أضلاع الرامي وأسنانه وتم الزج به في
السجن.
أما في العالم الثالث فلو أن مواطناً ما ألمح بشكل غير مباشر إلى
استيائه من الحكومة، فإن التهم تــُلفق له على الفور ، كأن يُـتهم مثلاً
بجناية النيل من هيبة الدولة، أو الإساءة للوطن وغير ذلك من الاتهامات
السخيفة والتافهة التي لا تنطلي حتى على المعتوهين عقلياً. وتكون العقوبة
فلكية بكل المقاييس، إذ يقضي المسكين بقية حياته خلف القضبان. وحتى لو خرج
من السجن سالماً بعد عشرات السنين فيقضي ما تبقى له من العمر منبوذاً.
لماذا؟ لأنه تجرأ على الدولة فقط بكلمة أو بكلمتين، أو لأنه كان حاضراً
عندما انتقد أحدهم الحكومة ولم يدافع عنها. لاحظوا الفرق بين رد الأنبياء
والرسل وحكومات العالم الثالث على منتقديها. وبالمناسبة فإن بعض القوانين
في بعض البلدان المتخلفة قد تسامحك إذا شتمت الذات الإلهية أو الأنبياء،
وتنزلك إلى أسفل السافلين إذا تجرأت حتى على نشر خبر عن صحة أحد وزراء
الحكومة.
والمضحك في الأمر أن رؤساء الحكومات الغربية متسامحون جداً ويقبلون النقد
وحتى الشتم والضرب وهم منتخبون ديمقراطياً. أما حكومات البلدان المتخلفة
فهي متجبرة ولا تسمح بأن يطالها المواطن حتى لو بكلمة عتاب، مع العلم أن
معظمها لا يتمتع بأية شرعية كانت.